المقالات

لبس السواد في عزاء أهل البيت: مكروه أم شعيرة؟

ريثما يُقبل شهر محرّم الحرام حتى يتوشّح العالم بالسواد حُزناً على سيّد الشهداء الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) الذي قُتل ظلماً وجوراً هو وأهل بيته وأنصاره في يوم عاشوراء.

 

لبس السواد في عزاء أهل البيت: مكروه أم شعيرة؟

ريثما يُقبل شهر محرّم الحرام حتى يتوشّح العالم بالسواد حُزناً على سيّد الشهداء الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) الذي قُتل ظلماً وجوراً هو وأهل بيته وأنصاره في يوم عاشوراء.

وفي كل عام لمّا يلبس الموالون السواد حُزنا في هذا المصاب تتعالى بعض الأصوات المُعترضة على ذلك مُدّعية أنّ لبس السواد بدعة لا أصل لها في الإسلام والغريب أنّ بعض هؤلاء المُعترضين ممّن يدّعي الولاء لأهل البيت (عليهم السلام).

وقبل أن نخوض غمار البحث حول لبس السواد لا بأس أن نُشير إلى بعض المطالب ومنها:

أولاً: المُراد من الشعيرة هو العلامة

قال الفيروز آبادي في (القاموس): أشعره الأمر: أعلمه، أشعرها: جعل لها شعيرة، وشعار الحج: مناسكه وعلاماته، المشعر: موضعها أو معالمها التي ندب الله إليها (1).

وقال الجوهري في (الصحاح): كلّ ما جعل علماً لطاعة الله، والمشاعر: الحواسّ، وشعار القوم في الحرب: علامتهم ليعرف بعضهم بعضاً، أشعرته فشعر: أدريته فدرى (2).

فالشعيرة هي إعلام حسّي للدين، كما في السعي بين الصفا والمروة فهو إعلام حسي لأمر ديني.

أمّا المكروه فله عدّة تفاسير منها: قلة الثواب، وقيل: أنه مايبغضه الله سبحانه بغضاً خفيفاً لم يصل إلى حد الحرمة، وقيل: إنّه هو المرجوح بنقص خاص، وقيل: إنه الفعل الذي فيه حزازة ومفسدة لا تصل درجة الحرمة فيجوز الفعل كما يجوز الترك ولكنّه يثاب على تركه ولا يعاقب على فعله.

ثانياً: لبس السواد: هو ارتداء الثياب السوداء، وهذا أمر واضح لغةً وعُرفاً.

ثالثاً: معرفة خواص السواد علمياً توضح لنا خصائص هذا اللون وخصوصية اتخاذه كشعار للحزن.

فقد قيل في تعريف اللون الأسود علمياً بأنّه: غياب الضوء، وعدم وصوله للعين، أوأنّه: الانطباع الذي يترك في العين عندما لا تأتي أيّ أشعة ضوئيّة باتجاه العين (3).

ومن يتتبّع النصوص المختلفة يجد بعضها يساعد على هذا المعنى حيث شبّه البعض فقد فقيدهم بانقطاع النور عن الحياة وأنّ الحياة صارت مظلمةً بفقده، ومن ذلك خطاب الصديقة الزهراء (عليها السلام) لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد وفاته حيث وقفت قبره وقالت: يا أبتاه، انقطعت بك الدنيا بأنوارها، وزوت زهرتها، وكانت ببهجتك زاهرة، فقد اسودَّ نهارها، فصار يحكي حنادسها رطبها ويابسها…إلى أن قالت (عليها السلام): «لو ترى المنبر الذي كنت تعلوه، علاه الظلام بعد الضياء (4).

وقال الإمام علي (عليه السلام) في رثاء الصدّيقة الزهراء (عليها السلام) عند دفنها: لقد اسودّت عليّ الغبراء، وبعدت عنّي الخضراء (5).

رابعاً: ذُكرت للون الأسود عدّة خصائص تعرّض إليها علماء النفس والاجتماع منها تأثيره على النفوس سيكولوجياً (psychology)، ومنها أنّه يرمز من جهة للقوّة، ويدل على احترام النفس والاعتزاز بها، وفي الوقت نفسه هو لون الاكتئاب والحزن والحداد، فهو اللّون التقليدي للحداد في الكثير من البلدان.

خامساً: أنّ لبس السواد عند المصيبة من التقاليد المعروفة عند الأُمم والشعوب قبل الإسلام وبعده؛ فمن عادة الإيرانيين، واليابانيين، والرومانيين، والمصريين، واليهود القدماء، وغيرهم أنهم يلبسون السواد حداداً وحزناً على موتاهم.

فقد نقل أنّ قدماء اليهود كان من مراسمهم في العزاء أنّهم يحلقون رؤوسهم ويحثّون عليها التراب ويلبسون السواد (6).

وكان الروم أيام عزائهم يخرجون من البيوت ويجتنبون الملذّات والملاهي ويلبسون السواد، ونقل أن هذه الرسوم انتقلت إليهم من المصريين (7).

ونقل ابن فهد الحلي في كتاب (التحصين) أن راهباً مسيحياً كان يرتدي جبّة سوداء، فسألوه لماذا تلبس السواد؟

فقال: السواد لباس المحزونين (8).

ونقل في كتاب (أخبار الدولة العباسيّة) في القرن الثالث أنّ العرب يصبغون ثيابهم بالسواد لدى المصيبة (9).

ونقل الزمخشري في كتاب (ربيع الأبرار) عن بعضهم، قال: لقيت راهباً عليه سواد، فقلت له فيه، فقال: ما تلبس العرب إذا مات لهم ميّت؟

قلت: السواد، قال: فأنا في حداد الذنوب (10).

وقد استمرت تلك العلامة إلى عهد الإسلام حيث كان المسلمون يرتدون السواد كعلامة على حزنهم والشواهد على ذلك كثيرة منها ما رواه المؤرخون أنّه لمّا قُتل من المسلمين في غزوة أحد سبعين شهيداً حزنت نساء المسلمين ومنهن أم سلمة ولبسن السواد حداداً عليهم.

وقد أشار ضرار بن الخطاب إلى قتلى أحد، فقال:

قتلى كرام بنو النجار وسطهم—–ومصعب من قنانا حوله قصد

وحمزة القرم مصروع تطيف به—–ثكلى وقد حزمنه الانف والكبد

تبكي عليهم نساء لا بعول لها—–من كل سالبة أثوابها قدد (11).

وقد لبست أسماء بنت عميس السواد لمّا قتل زوجها جعفر الطيار في غزوة مؤتة (12).

سادساً: اشتهر لبس السواد على مصائب أهل البيت (عليهم السلام) شهرة عظيمة بحيث إنّ الشعراء وفيهم العلماء والفقهاء تعرّضوا إليه وخصّوه بالذكر في أشعارهم والشواهد على ذلك كثيرة منها:

أنشد سيف بن عميرة النخعي الكوفي- الذي من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) أبياتاً مطلعها:

جل المصائب بمن أعصبنا فاعذري—–يا هذه وعن الملامة فاقصري

ومن ضمن الأبيات التي أنشدها خاطب فيها السادة في عصره:

وعبيدكم سيف فتى ابن عميرة—–عبد لعبد عبيد حيدر قنبر

إلى أن يقول:

والبس ثياب الحُزن يوم مصابه—–ما بين أسود حالك أو أخضر (13).

نظم أبو الحسن علي بن أحمد الجرجاني الجوهري نديم الصاحب بن عباد أبياتاً دعا فيها إلى الحداد على الإمام الحسين (عليه السلام)، ومن المعلوم أنّ الحداد في اللبس هو بلبس الثياب السود، قال:

عاشورنا ذا ألا لهفي على الدين—–خذوا حدادكم يا آل ياسين (14).

وقال أبو الحسن علي بن عبيدالله بن حماد العدوي العبدي الذي يعتبر من العلماء والشعراء العظام في أبيات له:

سأخضب وجنتي بدماء عيني—–لشيبته وقد نصلت خضابا

وألبس ثوب أحزاني لذكري—–له عريان قد سلب الثيابا

فوا حزنا عليه وآل حرب—–تروي البيض منه والحرابا (15).

وقال الأمير علي بن مقرب الأحسائي الذي كان من الأمراء المشهورين في البحرين:

وإنّ حزني لقتيل كربلا—–ليس على طول البلى بمقلع

إذا ذكرت يومه تحدرت—–مدامعي لأربع في مربعي

ياراكباً نحو العراق جرشعا—–ينمي لعبدي النجار جرشع

إذا بلغت نينوى فقف بها—–وقوف محزون الفؤاد موجع

والبس إذا اسطعت بها ثوب الأسى—–وكل ثوب للعزاء المفجع

فإن فيها للهدى مصارعا—–رائعة بمثلها لم يسمع (16).

وقال السيّد محمد بن مال المُلقّب بالفلفل:

ولزينب نوح بفقد شقيقها—–تدعوه يابن الزاكيات الركع

اليوم أصبغ في عزاك ملابسي—–سودا وأسكب هاطلات الأدمع (17).

وجوه الكراهة في لبس السواد

ذُكرت بعض الوجوه في كراهة لبس السواد تشبّث بها المانعين من لبس السواد وهي:

1- الإجماع على كراهة لبس السواد: حيث ادعى الشيخ الطوسي (رحمه الله) الإجماع على كراهة لبس السواد، قال: تكره الصلاة في الثياب السود. وخالف جميع الفقهاء في ذلك.

دليلنا: إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط (18).

2- أن السواد زي الجبابرة: ويشهد لذلك نهي أميرالمؤمنين (عليه السلام) حيث قال (عليه السلام) لأصحابه: لا تلبسوا السواد؛فإنّه لباس فرعون (19).

3- أنّ السواد زيّ أعداء الله ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: الصادق (عليه السّلام) قال: إنّه أوحى اللّٰه إلى نبي من أنبيائه: قل للمؤمنين لا تلبسوا لباس أعدائي و لا تطعموا مطاعم أعدائي و لا تسلكوا مسالك أعدائي فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي (20).

4- السواد زيّ أهل النار: فقد روى الصدوق عن حذيفة بن منصور أنّه قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) بالحيرة، فأتاه رسول أبي العباس الخليفة يدعوه، فدعا بممطرةٍ له، أحد وجهيه أسود والآخر أبيض، فلبسه ثمّ قال (عليه السلام): أَما إنّي ألبسه وأنا أعلم أنّه لباس أهل النّار (21).

5- السواد شعار بني العباس: فقد رُوي أنّ جبرئيل هبط على رسول الله وعليه قباء أسود، ومنطقة فيها خنجر، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا جبرئيل ما هذا الزيّ؟

فقال: زيّ وُلْد عمّك العباس يا محمد، ويل لوُلْدك من وُلْد عمّك العباس (22).

مناقشة وجوه الكراهة

في جواب وجوه الكراهة يقال: أمّا الإجماع فهو غير محصّل وعلى فرض أنّه محصّل لا يكون كاشفاً عن قول المعصوم عليه السلام، لاحتمال استناده إلى الاخبار الواردة في هذا الباب.

وأمّا الروايات فالإنصاف أنّ ظاهرها هو عموم كراهة لبس السواد وليس في خصوص الصلاة، ويؤيّد ذلك تصريح مجموعة من الفقهاء بذلك، نعم هناك روايتان موضوع الكراهة فيها هي الصلاة وهما: ما ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت: أُصلّي في القلنسوة السوداء؟

فقال: لا تصلِّ فيها، فإنّها لباس أهل النار (23).

وروى أيضاً: لا تصلِّ في ثوبٍ أسود، وأمّا الخف أو الكساء أو العمامة فلا بأس (24).

ولكن جميع الروايات في المقام ضعيفة السند ما خلا معتبرة السكوني الناهية عن التشبّه بأعداء الله في اللباس.

إن قلت: عمل الأصحاب بالروايات جابر لضعفها.

قلت: القول بجبر ضعف أخبار كراهة لبس السواد لايتم إلّا إذا ثبت استنادهم في فتواهم بالكراهة إليها لكن يحتمل استنادهم إلى قاعدة التسامح في أدلّة السنن فلا يتم المطلوب.

وإن قلت: إنّ من أفتى بالكراهة اعتمد على أدلة التسامح في أدلّة السنن.

قلت: من الصعب الالتزام بشمول أدلة التسامح في السنن للمكروهات لأنّّ موضوعها هو المستحبات وتعميمه إلى المكروهات يحتاج إلى دليل.

وكما يبدو من الروايات أنّ النهي عن لبس السواد ليس ذاتياً بل لانطباق بعض العناوين عليه مثل التشبّه بأعداء الله أو لكونه زيّ الفراعنة أوزي أهل النار ومع انتفاء هذه العناوين تنتفي الكراهة، ولاشك أنّ عنوان الحُزن والعزاء أوالشعيرة غالب على هذه العناوين.

بل يمكن أن يقال بالتخصيص فيُكره لبس السواد إلا في الحداد على أهل البيت (عليهم السلام).

أضف إلى ذلك إنّما يحرم لبس السواد لو اتخذ لباساً، أمّا إذا اتُّخذ شعاراً لإظهار الحزن فهو غير مشمول لتلك الكراهة، ومن هنا ذهبَ البعض ومنهم صاحب الحدائق (25)، والسيّد اليزدي (26) وغيرهم من الفقهاء إلى عدم كراهة لبس السواد حتّى في الصلاة إذا كان لأجل إظهار الشعائر.

أسباب لبس السواد

بعد أن تبين عدم أهلية أدلة المانعين من لبس السواد يطرح سؤال مهم وهو: لماذا نلبس السواد؟

وهل أنّ لبس السواد هو للحزن فقط أم هناك دواعي أخر له؟

الجواب: هناك عدة أمور تدفع الموالين بل وغيرهم أن يرتدوا السواد في أحزان أهل البيت (عليهم السلام) منها:

1- وجود الروايات الداعية إلى لبس السواد ومنها: ما رواه ابن قولويه: إنّ ملكاً من ملائكة الفردوس الأعلى، نزل على البحر، فنشر أجنحته عليها، ثمّ صاح صيحة وقال: يا أهل البحار البسوا أثواب الحزن، فإنّ فرخ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مذبوح (27).

وقد فهم العلامة النوري (رحمه الله) من هذه الرواية: عدم كراهة لبس السواد، أو رجحانه حزناً على أبي عبد الله (عليه السلام)، كما عليه سيرة كثير من الناس في أيّام حزنه ومأتمه (28).

وروي عن عمر بن علي بن الحسين، قال: (لمّا قتل الحسين بن عليّ (عليه السلام)، لبسن نساء بني هاشم السواد والمسوح، وكنّ لا يشتكين من حرّ ولا برد، وكان علي بن الحسين (عليه السلام) يعمل لهنّ الطعام للمأتم (29).

وهذه الرواية إضافة إلى دلالتها على مشروعيّة لبس السواد، بل استحبابه في أحزان أهل البيت (عليهم السلام)، تدلّ على أُمور أُخرى، منها: استحباب إقامة المأتم، والإطعام، والقيام بخدمة مقيمي مأتم عزاء الإمام الحسين (عليه السلام)، حيث كان الإمام السجّاد (عليه السلام) شخصيّاً يقوم بهذه الخدمة، وكفى بذلك مقاماً لمقيمي المآتم.

2- من باب إحياء أمرهم (عليهم السلام): فقد اعتاد الشيعة على لبس الثياب السوداء في أيام مصائب أهل البيت (عليهم السلام) خاصة سيّد الشهداء (عليه السلام) إمتثالاً لأمرهم في الروايات، حيث إنهم أمروا بإحياء أمرهم فقالوا: فأحيوا أمرنا رحم الله مَن أحيى أمرنا (30).

3- الشعائرية: لاشك أنّ لبس السواد هو من أجلى مصاديق شعائر أهل أهل البيت (عليهم السلام).

4- المواساة: أن لبس السواد من المواساة لأهل البيت (عليهم السلام) في أحزانهم.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): رحم الله شيعتنا، شيعتنا والله هم المؤمنون فقد والله شاركونا في المصيبة بطول الحزن والحسرة (31).

5- من باب التأسّي: لبس السواد هو نوع من التأسّي بأهل البيت (عليهم السلام) الذين لبسوا السواد في مصائبهم ومن ذلك: ما ورد عن الأصبغ بن نباته أنّ الحسنين (عليهما السلام) لبسا السواد على أبيهما في الكوفة بعد شهادته (32).

ونقل ابن أبي الحديد أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) لما نعى إلى الناس شهادة أبيه أميرالمؤمنين (عليه السلام) كانت عليه ثياب سود (33).

ولما أذِن يزيد لأهل البيت (عليهم السلام) بالرجوع طلبوا منه النوح على الحسين (عليه السلام): فلم تبقَ هاشميّة ولا قريشيّة إلاّ ولَبست السواد على الحسين و ندبوه (34).

6- الحُزن عليهم: ذكرنا أنّ لبس السواد لدى الأمم المختلفة علامة على الحداد والحزن وتطرقنا إلى بعض المصاديق، ومن هنا فإنّ لبس الإنسان السواد مخصوصاً على سيدالشهداء (عليه السلام) يعد علامة على الحزن عليه الذي أشاد أهل البيت (عليهم السلام) به في مختلف أحاديثهم ومنها قول الإمام الرضا (عليه السلام) لابن للريان بن شبيب: يا بن شبيب، إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العُلى من الجنان، فاحزن لحزننا (35).

وعن مسمع بن كردين البصري، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا مسمع أنت من أهل العراق أما تأتي قبر الحسين (عليه السلام)؟

قلت: لا أنا رجل مشهور عند أهل البصرة، وعندنا من يتبع هوى هذا الخليفة وعدوّنا كثير من أهل القبائل من النصّاب وغيرهم، ولست آمنهم أن يرفعوا حالي عند ولد سليمان فيمثلّون بي.

قال لي: أفما تذكر ما صنع به؟

قلت: نعم، قال: فتجزع، قلت: إي والله واستعبر لذلك حتى يرى أهلي أثر ذلك علي فامتنع من الطعام حتى يستبين ذلك في وجهي، قال: رحم الله دمعتك، أما أنّك من الذين يعدّون من أهل الجزع لنا والذين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحُزننا (36).

فتاوى الفقهاء في لبس السواد على أهل البيت (عليهم السلام)

ذهب فقهاء الشيعة العظام في فتاواهم إلى استحباب في مصائبهم وأحزانهم ونحن في المقام نتعرض إلى جملة من هذه الفتاوى ومنها:

1- قال الشيخ يوسف البحراني (رحمه الله) صاحب (الحدائق الناضرة): لايبعد استثناء لبس السواد في مآتم الحسين (عليه السلام) من هذه الأخبار لما استفاضت به الأخبار من الأمر بإظهار شعائر الأحزان عليه ويؤيده ما رواه شيخنا المجلسي (رحمه الله) عن البرقي في كتاب (المحاسن) (37).

2- قال الشيخ خضر شلال آل خدام العفكاوي الذي يعتبر من خيرة تلامذة الشيخ جعفر كاشف الغطاء في كتابه الشهير (أبواب الجنان): قد أوردنا من كل فرقة منها- أي الروايات- طائفة تغني اللبيب الذي قد لا يشك في دلالة الأخبار المتواترة والآثار المتضافرة على مزيد استحباب اللطم على الرؤوس والصدور، ولبس السواد وإظهار الجزع ونحوه (38).

3- قال السيد محمد كاظم اليزدي (رحمه الله) صاحب الكتاب الفقهي الشهير (العروة الوثقى) في آخر رسالة (منهج الرشاد) للشيخ جعفر التستري طرح سؤالاً حول لبس السواد وأجاب عليه بما يلي: لبس السواد في عزاء سيدالشهداء (عليه السلام) راجح وموجب لفرح رسول الله وأئمّة الهدى صلوات الله عليهم أجمعين (39).

4- قال المحقّق الكاظمي (رحمه الله) المعروف بالمحقق الكاظمي: وفي استثناء لبسه في مآتم الحسين (عليه السلام) ونحوه وجه غير بعيد كما في الحدائق لما دلّ على إظهار شعائر الحزن عليه ولما روي من لبس نساء بني هاشم السواد ولم يغيرنها في حرّ أو برد وكان زين العابدين (عليه السلام) يصنع الطعام في المآتم ولم ينكره عليهن (40).

5- وجه سؤال إلى الشيخ الجليل زين العابدين المازندراني (رحمه الله) بأن إقامة العزاء في مجالس الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر المعصومين (عليهم السلام) مثل اللطم على الصدور والرؤوس ولبس السواد جائز شرعا؟

فأجاب (رحمه الله) بما يلي: لا إشكال فيه وهذا ليس بمعصية بل هو مستحب (41).

6- قال العلامة عبدالله المامقاني: لا ريب في قيام السيرة القويمة من العلماء والصلحاء والمتدينين والأبرار في كافة الأمصار على لبس أهل المصيبة السواد وكذا في أيام عزاء المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين سيما سيدالشهداء أرواحنا له الفداء حتى صار ذلك من شعارهم والذي به يمتازون عن غيرهم (42).

6- قال المحدث النوري (رحمه الله صاحب (مستدرك وسائل الشيعة: قلت: وفي هذه الأخبار، والقصص، إشارة أو دلالة على عدم كراهة لبس السواد، أو رجحانه حزناً على أبي عبد الله (عليه السلام)، كما عليه سيرة كثير في أيام حزنه ومأتمه (43).

7- قال السيد أبو الحسن الإصفهاني (رحمه الله): لا يخفى على إخواننا المؤمنين حفظهم الله تعالى أن إظهار الحزن والبكاء والعويل في هذا الرزء الجليل من أحسن القربات وأفضل الطاعات كما أنّ الجزع والهلع والتظاهر بكل ما ينبئ عن عظم المصيبة وجلالة شأن المصاب من لبس السواد ورفع أعلام السود والمشاعل وسائر مظاهر الحزن كاللطم على الصدور وغير ذلك من إظهار شعائر الإمامية يبتغون بذلك صلة نبيهم وإحياء ذكر أئمتهم (عليهم السلام) ويرجون بذلك شفاعتهم يوم لا ينفع مال ولا بنون (44).

وهناك الكثير من الفقهاء المتأخرين أفتوا باستحباب ورجحان لبس السواد في عزاء أهل البيت (عليهم السلام) علما أنّ بعضهم كتب رسالة مستقلة في ذلك ومنهم:

1- إرشاد العباد إلى استحباب لبس السواد على سيد الشهداء (عليه السلام) للسيد جعفر الطبطبائي (رحمه الله).

2- رسالة مجمع الدرر في المسائل الاثني عشر للشيخ عبدالله المامقاني.

3- رسالة مختصرة في لبس السواد: للميرزا جواد التبريزي.

4- كتاب باللغة الفارسية حول لبس باسم (سياه بوشي سوك أئمة نور عليهم السلام) أي لبس السواد في عزاء أئمّة النور عليهم السلام لعلي أبو الحسني.

لبس السواد في العهود المختلفة

من المعروف أنّ الشيعة الموالين مروا بعصور عصيبة جداً لم يسمح لهم فيها بممارسة طقوسهم الدينة ومنها إقامة العزاء على أهل البيت (عليهم السلام) فكانوا يمارسون طقوسهم خفية وتستر حتى أقيمت بعض الحكومات الشيعية التي ساهمت في نشر الشعائر الشيعية وسعت في تكريسها ومن تلك الحكومات هي حكومة البويهيين.

يقول مؤلف كتاب (قهرمانان إسلام) أي أبطال الإسلام ما مفاده: وكان معزّ الديلمي قد أصر على مزاولة عادة إقامة المجالس في يومي تاسوعاء وعاشوراء في بغداد وصارت الجماعات من القائمين بهذه المآتم تجوب أسواق بغداد، بأعلامها الخاصة، لاطمة صدورها ورؤوسها.

كما كان السلطان معزّ الدولة البويهي يرتدي رداء الحداد والحزن.. (45).

وقال ابن الجوزي في حوادث سنة (352هـ): «أنه في اليوم العاشر من المحرم أُغلقت الأسواق ببغداد، وعُطِّل البيع، ولم يذبح القصابون ولا طبخ الهراسون ولا تُرك الناس أن يستقوا الماء، ونُصبت القباب في الأسواق، وعُلقت عليها المسوح (46)، ولا يخفى أنّ المراد بالمسوح هو الثوب من الشعر.

وقال ابن الأثير: في هذه السنة عاشر المحرّم أمر معزّ الدولة الناس أن يُغلقوا دكاكينهم، ويُبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأن يُظهروا النياحة، ويلبسوا قباباً عملوها بالمسوح، وأن يخرج النساء… مُسوّدات الوجوه (47).

وذكر ابن كثير في (البداية والنهاية) في أحداث سنة (352) أمر معز الدولة أحمد بن بويه في بغداد في العشر الأول من المحرم بإغلاق جميع أسواق بغداد وأن يلبس الناس السواد ويقيموا مراسم العزاء (48).

ولكن بسبب الفتن التي كانت تشهدها بغداد من حين لآخر، قام بعض نوّاب أو وزراء الملوك البويهيين بمنع إقامة المآتم الحسينية في أيام عاشوراء في بعض الأعوام، فقد ذكر ابن الجوزي في حوادث سنة 382هـ: أنّ أبا الحسن علي بن محمد الكوكبي المعلم كان قد استولى على أُمور السلطان كلها، ومنع أهل الكرخ وباب الطاق من النوح في عاشوراء وتعليق المسوح (49)، كما ورد أيضاً في أخبار سنة (393هـ)، أنّ عميد الجيوش، منع في يوم عاشوراء أهل الكرخ وباب الطاق من النوح في المشاهد وتعليق المسوح في الأسواق، فامتنعوا، كما «منع أهل باب البصرة وباب الشعير من مثل ذلك، فيما نسبوه إلى مقتل مصعب بن الزبير بن العوام (50).

وبما أنّ قرار المنع الأوّل ـ فيما يبدو ـ لم يدُم إلا سنة واحدة، أي: (382هـ)، فقد جاء قرار المنع الآخر في سنة (393هـ) لإيقاف الشيعة عن القيام بإحياء مراسم عاشوراء مدّة عقد كامل، إلى أن أذِنَ فخر الملك لأهل الكرخ وباب الطاق في عمل عاشوراء سنة (402هـ)، «فعلّقوا المسوح، وأقاموا النياحة في المشاهد (51).

وذكر المؤرّخ ابن تغري بردي في سيرة الخليفة المستعلي بالله الفاطمي، فقال: إذا كان اليوم العاشر من المحرّم، احتجب الخليفة عن الناس، فإذا علا النهار ركِب قاضي القضاة والشهود، وقد غيّروا زِيَّهم ولبسوا قماش الحزن، ثمّ صاروا إلى المشهد الحسيني (52).

وذكر الرحالة الفرنسي زان باتيست تاورنيه عن العزاء في إيران ما مضمونه: ثمانية أو عشرة أيام قبله- أي يوم عاشوراء- يصبغ مُتعصّبي الشيعة جميع بدنهم بالسواد (53).

وكتب اسنكدر بيك حول حرب الشاه عباس الصفوي مع العثامنين في (أرمينيا) ما مفاده: وفي يوم عاشوراء حيث مقتل سيدالشهداء يجلس الشاه عباس كعادته وقد ارتدى ثياب العزاء والحزن والناس مشغولون بالعزاء (54).

وقال الكاتب أصغر حيدري في كتابه (تاريخ وجلوه هاي عزاداري إمام حسين در إيران) أي تأريخ ومظاهر عزاء الإمام الحسين في إيران تحت عنوان (الوضع الظاهري للمعزين) فقال: من الرسوم التأريخية للإيرانين أثناء العزاء هي لبس الملابس السوداء…ثم ينقل كلام الرحالة آدام اولئاربوس الذي كان مع الهيئة الألمانية في وصف الشاه صفي ما مفاده: في طيلة عزاء الإيرانيين فهم يلبسون ثياب العزاء ويكونوا حزينين (55).

ونقل عنه أيضاً: أن نساء إصفهان طيلة السنة لمّا يخرجن من بيوتهن يلبسن المقانع البيضاء، أما في أيام عزاء محرم فإنهن يلبسن المقانع السوداء (56).

ونقل في أحوال الشاه عباس الصفوي أنه كان لا يترك مراسم على أهل البيت (عليهم السلام) حتى في الحروب حيث كان يرتدي لباس الحزن ويقيم مراسم العزاء (57).

ونقل أيضاً في سنة (1021هـ) صادف عيد النوروز أيام عشرة محرم فلم يحي الشاه عباس مراسم العيد بل انشغل الناس بالعزاء ولبسوا ثياب الحزن (58).

ونقل الرحالة الإيطالي بيترو دلا واله عزاء الإيرانيين في عهد الشاه عباس الصفوي فقال: يبدو للنظر أن الإيرانيين كئيبين حزينين عليهم ثياب الحزن السود…وكما يبدو أنّ هذا حالهم طيلة العشرة الأولى من محرم (59).

……………………………………….

(1) القاموس المحيط: 2/60.

(2) الصحاح: 2/699.

(3) ويكبيديا: (الموسوعة الحرة) مادة (أسود).

(4) بحار الأنوار: 43/177.

(5) بحار الأنوار: 43/180.

(6) سياه بوشي در سوك أئمة نور (عليهم السلام): 64.

(7) سياه بوشي در سوك أئمة نور (عليهم السلام): 63.

(8) التحصين: 15.

(9) أخبار الدولة العباسية: 247.

(10) ربيع الأبرار: 4/426.

(11) السيرة النبوية: 3/664.

(12) سبرة ابن هشام: 3/159.

(13) منتخب المطريحي: 2/437.

(14) مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): 3/270.

(15) أدب الطف: 2/180.

(16) أعيان الشيعة: 8/348.

(17) أدب الطف: 7/50.

(18) الخلاف: 1/506.

(19) من لا يحضره الفقيه: 1/251.

(20) علل الشرائع: 2/348.

(21) الكافي: 6/449.

(22) من لا يحضره الفقيه: 1/252.

(23) الكافي: 3/403.

(24) الكافي: 3/403.

(25) قال في الحدائق الناضرة: لا يبعد استثناء لبس السواد في مأتم الحسين (عليه السلام) ؛ لمَا استفاضت به الأخبار من الأمر بإظهار شعائر الأحزان.الحدائق الناضرة: 8/118.

(26) نُسب إليه أن ذهب إلى ذلك في حاشيته على رسالة الشيخ جعفر التستري، راجع الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد: 97.

(27) كامل الزيارات: 68.

(28) مستدرك وسائل الشيعة: 3/328.

(29) المحاسن: 2/420.

(30) وسائل الشيعة: 12/20.

(31) ثواب الأعمال: 217.

(32) شرح نهج البلاغة: 4/8.

(33) شرح نهج البلاغة: 16/22.

(34) إعلام الورى: 1/177.

(35) أمالي الصدوق: 130.

(36) كامل الزيارات: 101.

(37) الحدائق الناضرة: 7/118.

(38) أبواب الجنان وبشائر الرضوان: 291.

(39) سياه بوشي در سوك أئمة نور (عليهم السلام): 229-230.

(40) هداية الأنام في شرح شرائع الإسلام: 454.

(41) سياه بوشي در سرك ائمة نور (عليهم السلام): 226-227.

(42) رسالة مجمع الدرر في المسائل الاثني عشرية.

(43) مستدرك وسائل الشيعة: 3/328.

(44) سياه بوشي وسوك أئمة نور (عليهم السلام): 233.

(45) نقلاً عن كتاب تاريخ النياحة: 150.

(46) الكامل في التأريخ: 8/558.

(47) الكامل في التأريخ: 8/551.

(48) البداية والنهاية: 11/276.

(49) المنتظم في تأريخ الأمم والملوك: 15/38.

(50) تجارب الأمم: 7/527.

(51) المنتظم في تأريخ الأمم والملوك: 15/83.

(52) النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: 5/154.

(53) إيرانيان وعزاداري عاشورا: 62.

(54) تأريخ وجلوه هاي عزاداري إمام حسين در إيران باتكية بر دوره صفويه: 63.

(55) تأريخ وجلوه هاي عزاداري إمام حسين در إيران باتكية بر دوره صفويه: 111.

(56) تأريخ وجلوه هاي عزاداري إمام حسين در إيران باتكية بر دوره صفويه: 111.

(57) شكل گيري وتحول مراسم مذهبي در عهد صفوية: 166.

(58) شكل گيري وتحول مراسم مذهبي در عهد صفوية: 167.

(59) شكل گيري وتحول مراسم مذهبي در عهد صفوية: 215.

الشيخ جاسم الأديب

شبكة النبأ المعلوماتية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى